قصة المفاوضات السرية بين لندن والقاهرة لتسليم أربعة إسلاميين

قصة المفاوضات السرية

بين لندن والقاهرة لتسليم أربعة إسلاميين

كميل الطويل     

الوسط     2004/11/24

 

ليس سراً ان أوساطاً عربية وأجنبية كثيرة كانت تشكك في التسعينات في وجود "اتفاق سري" بين بريطانيا و"ضيوفها" من المعارضين الإسلاميين. ومرد ذلك ان حكومة صاحبة الجلالة دأبت على رفض تسليم متشددين الى بلدانهم الأصلية أو الى دول أخرى كانت تزعم انهم متورطون في نشاطات ارهابية. ويدلل أصحاب هذا الرأي على "صحة" زعمهم بالقول إن بريطانيا لم تسلّم في التسعينات أي متشدد مطلوب بالإرهاب: الجزائري رشيد رمدة المتهم في قضية تفجيرات المترو في فرنسا والذي لم يُسلّم حتى الآن على رغم اعتقاله منذ 1995 (هو ينفي التهمة), والسعودي خالد الفواز والمصريان عادل عبدالمجيد وابراهيم العيدروس المعتقلان منذ 1998 على ذمة قضية تفجير سفارتي الولايات المتحدة في شرق افريقيا في ذلك العام والذين لم تتمكن واشنطن حتى الآن من وضع يدها عليهم (ينفي محاموهم التهم الأميركية).

لكن هل صحيح أن الحكومة البريطانية تتردد عمداً في عدم تسليم "ضيوفها" المشتبه في ضلوعهم في الارهاب؟

ليس صحيحاً بتاتاً... أو على الأقل هذا ما يكشفه قرار قضائي بريطاني صدر قبل فترة وجيزة ويتبيّن من خلاله ان الحكومة البريطانية كانت راغبة جداً في "التخلص" من متشددين إسلاميين اعتقلوا في "عملية التحدي" في أيلول (سبتمبر) 1998, وان رئيس الوزراء توني بلير تدخل بنفسه للإسراع في ترحيلهم الى بلدهم (مصر), حتى في ظل عدم وجود ضمانات كافية لسلامتهم, كما كانت تسعى اليه وزارتا الداخلية والخارجية.

 

مبارك وبلير: عقدة التعهدات المصرية.

 ويكشف قرار المحكمة العليا في لندن في تموز (يوليو) الماضي, ان الحكومة البريطانية كانت تجري في نهاية التسعينات مفاوضات سرية مع الحكومة المصرية بهدف تسليمها أربعة من عناصر "جماعة الجهاد" التي يقودها الدكتور أيمن الظواهري. وكما تكشف أوراق القضية التي باتت علنية قبل أيام بعدما حكم القضاء بدفع تعويض مالي لمصلحة أحد هؤلاء الأربعة, الدكتور هاني السباعي, بحجة ان جزءاً من فترة اعتقاله لم تكن قانونية, تفاصيل مثيرة عن اتصالات المسؤولين البريطانيين مع المصريين وسعيهم المستميت الى الحصول على تعهد من القاهرة بعدم تعذيبهم اذا اُعيدوا اليها والسماح لمسؤولين بريطانيين بزيارتهم في السجن والتعهد بعدم إعدامهم, وهي تعهدات رفض المصريون تقديمها وأدت الى فشل عملية تسليم الإسلاميين الأربعة (يبدو ان المصريين "تعلموا" من خطأهم هذا وقدموا لاحقاً تعهدات للسويد ساهمت في تسليمهم أحد أبرز القياديين المفترضين في تنظيم "طلائع الفتح الإسلامي").

ويرفض السباعي تحديد المبلغ الذي تقاضاه تعويضاً من الحكومة البريطانية. لكنه يقول لـ"الوسط" إن تفاصيل القضية تكشف ان رئيس الحكومة بلير "كان راغباً في انتهاك القوانين على رغم خلفيته في المحاماة", وعلى رغم "أنه كان يرفع قبل وصوله الى سدة الحكم شعار احترام حقوق الانسان". وهو ينفى مجدداً مزاعم الاستخبارات البريطانية انه مع الثلاثة الآخرين (ابراهيم عيدروس وسيد عبداللطيف وأسامة حسن) جزء من خلية سرية لـ"جماعة الجهاد" كانت تخطط لضرب سفارة الولايات المتحدة في البانيا. ويقول ان البريطانيين كانوا يشكون عندما اعتقلوه على أساس انه عضو في "مجلس شورى جماعة الجهاد", وانه في التحقيق معه كان جوابه دائماً, بناء على نصيحة محاميته, ان "لا تعليق" لديه على اسئلة المحققين.

هذه قصة المفاوضات السرية بين البريطانيين والمصريين:

وصل هاني السيد السباعي يوسف الى بريطانيا في 6 أيار (مايو) 1994 وقدّم فوراً

 

هاني السباعي.

طلباً للحصول على حق اللجوء السياسي بحجة انه تعرّض للمضايقة وعُذّب على أيدي أجهزة الأمن المصرية بسبب علاقته بـ"الاخوان المسلمين" وعمله محامياً يدافع عن ناشطين إسلاميين.

مُنح اذناً موقتا بالدخول الى بريطانيا, لكن طلبه اللجوء احتاج الى اربع سنوات ليُبت فيه ويُرفض (في 23 كانون الثاني/ ديسمبر 1998). وقالت وزارة الداخلية انه يستحق ربما الحصول على اللجوء, لكنها بررت رفضها منحه اياه بأن نشاطاته تتعارض مع اهداف الأمم المتحدة ومبادئها بسبب تورطه في "نشاطات إرهابية" مزعومة. وبنى وزير الداخلية قراره هذا على تقدير أجهزة الأمن البريطانية انه "عنصر رفيع المستوى في جماعة الجهاد" وان "نشاطاته لمصلحة الجماعة" تتضمن على الأرجح تسهيل وصول عناصرها الى بريطانيا وتسهيل سفرهم.

في 23 أيلول 1998 اعتقلت شرطة مكافحة الارهاب "بناء على قانون مكافحة الارهاب" السباعي مع ثلاثة مصريين آخرين, وفي 27 أيلول أُفرج عنه لكن أعيد اعتقاله بناء على قرار وزير الداخلية جاك سترو (قبل ان يعين وزيراً للخارجية) الذي رأى ان الأمن القومي البريطاني يتطلب احتجازه في انتظار بت طلبه الحصول على اللجوء السياسي.

ومنذ اللحظة الأولى لاعتقاله في أيلول 1998, كان رأي وزير الداخلية ان يتم ترحيله الى مصر أو بلد آخر كونه يشكل تهديداً للأمن الوطني البريطاني. لكن في 14 كانون الثاني (يناير) 1999 تبلغ وزير الداخلية من مستشاريه انه ليست هناك دولة ثالثة يمكن ترحيل السباعي اليها, وان فكرة إبعاده الى مصر يجب ان تُدرس. إلا أن الانطباع كان منذ البداية أنه لا يمكن إبعاده الى مصر سوى بعد الحصول على تعهدات من حكومتها بأنه لن يتم تعذيبه او اساءة معاملته إذا أُعيد, خصوصاً في ظل تقارير منظمات دولية تنتقد سلوك مصر في مجال حقوق الانسان.

وفي 21 كانون الثاني 1999 كتب المسؤول البارز في وزارة الخارجية البريطانية جون غرانت الى وزارة الداخلية يثير قضية الحصول على ضمانات من مصر بعدم تعذيب الأربعة اذا رُحّلوا, مشيراً في الوقت ذاته الى ان القضاء قد يرفض في النهاية هذه الضمانات ويرفض طلب الترحيل. وقال إن وزارة الداخلية يمكنها ان تقدم تصوراً لطبيعة الضمانات التي يمكن طلبها من مصر والتي يمكن ان تُقنع القضاء بقبول طلب التسليم وتتوافق في الوقت ذاته مع المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.

 

بعض الوثائق وظهر على واحدة منها تعليق بخط يد توني بلير.

 وفي 5 شباط (فبراير) 1999 كتبت ماري ستاثام, المسؤولة في وزارة الداخلية, مذكرة الى محام تستشيره في مجال الضمانات التي يمكن طلبها من مصر ويمكن عرضها أمام القضاء. كذلك كتبت وزارة الداخلية, في 19 شباط, رسالة تستشير فيها هيئة قضائية تابعة للحكومة عن الضمانات التي يمكن طلبها من القاهرة.

وفي 2 آذار (مارس), قدم السباعي طلباً الى القضاء قال فيه ان أي ضمانات تقدمها مصر تكون "بلا قيمة", وانه يجب الافراج عنه. لكن القاضي أرجأ النظر في الطلب حتى 12 آذار. وفي خلال تلك الفترة كان وزير الداخلية يأذن لمسؤولين بمحاولة الحصول على ضمانات من الحكومة المصرية. وتم فعلاً ارسال مسودة رسالة ضمانات الى السفارة البريطانية في القاهرة لأخذ رأيها فيها. وكان رأي محامي الحكومة البريطانية ان رسالة ضمانات محددة يجب ارسالها الى وزارة العدل المصرية, لكن لا يُعرف كم سيستغرق الجهد للحصول عليها, وان السباعي يجب ان لا يُفرج عنه نظراً الى "خطورة حالته". ووافق القضاء على رأي الحكومة.

وفي 17 آذار 1999, أرسلت وزارة الخارجية رسالة رسمية عبر السفارة البريطانية تطلب فيها ضمانات محددة من الحكومة المصرية. ونص طلب الحكومة البريطانية على ان تقدم الحكومة المصرية تعهداً خطياً بضمان سلامة السباعي والثلاثة الآخرين, وان لا تُساء معاملتهم خلال فترة اعتقالهم, وان يلقوا محاكمة عادلة وعلنية أمام هيئة قضائية مستقلة ومحايدة, وان تجري أي محاكمة امام محكمة مدنية, وان يتم ابلاغهم بسرعة بتفاصيل الاتهامات الموجهة اليهم وطبيعتها, وان يُمنحوا الوفت الكافي لتحضير دفاعهم, وان يسمح لهم باستجواب الشهود ضدهم وجلب شهود لمصلحتهم, وان يمكنهم تعيين تمثيل قضائي من اختيارهم هم, وان تُخفف عقوبة الاعدام اذا تمت ادانتهم بها, وانه خلال فترة سجنهم يجب السماح لممثلين عن الحكومة البريطانية واطباء مستقلين بزيارتهم, وانه في حال عدم وفاء الحكومة البريطانية بالتزاماتها المتعلقة بزيارتهم يمكنهم الاتصال بمحام في بريطانيا يتولى هو متابعة "واجبات" الحكومة البريطانية تجاههم.

وفي 21 آذار 1999 حصل اجتماع بين السفير البريطاني في القاهرة ووزير الداخلية المصري (حبيب العادلي) سعى فيه السفير الى الحصول على رسالة الضمانات. وفي اليوم التالي أثار السفير قضية رسالة الضمانات مع هيئات أخرى في الحكومة المصرية بما فيها وزارة الخارجية.

لكن رد المصريين كان سلبياً منذ البداية, إذ رفضوا طلبات الضمانات. ففي 22 آذار بعث وزير الداخلية المصري برسالة رفض فيها منح البريطانيين اذناً بزيارة مواطنين مصريين في السجون, ومنح السجناء حق الاتصال بمحامين مقرهم بريطانيا, وكذلك تخفيف حكم الاعدام ضدهم, على أساس ان ذلك يمثّل تدخلاً في النظام القضائي المصري وتعدياً على السيادة الوطنية المصرية.

لكن هذا الرفض لم يكن نهائياً. إذ أن السفير البريطاني في القاهرة عقد في اليوم التالي (23 آذار) لقاء مع المساعد الأول للوزير تم فيه اقتراح ارسال نسخة معدلة من رسالة الضمانات.

وفي أول نيسان (ابريل) 1999, كتبت هيلاري جاكسون (من وزارة الداخلية) الى جون سويرز (من رئاسة الحكومة) تبلغه بالرد الأولي للحكومة المصرية على رسالة الضمانات. وقرأ رئيس الحكومة توني بلير الرسالة وكتب علي هامشها عبارة "أرجعوهم" (إلى مصر). كذلك كتب قبالة العبارة التي تقول ان وزير الداخلية المصري اعترض على تقديم الضمانات: "هذا كثير. لماذا نحتاج الى كل هذه الأمور؟".

وفي 3 نيسان 1999, ناقش السفير البريطاني مع الدكتور اسامة الباز, مستشار الرئيس المصري, رسالة الضمانات التي يطلبها البريطانيون. وفي 5 نيسان طلبت الحكومة المصرية توضيحات تتعلق ببعض الأمور عن هذه القضية, وحصلت عليها بالفعل. وفي 5 نيسان أيضاً أكدت السفارة البريطانية ان الرئيس حسني مبارك على علم بطلب الضمانات.

لكن سفر الرئيس المصري وكبار مسؤولي حكومته في تلك الفترة أدى الى تباطؤ المفاوضات مع البريطانيين. وفي 19 نيسان, كتب السكرتير الخاص لرئيس الوزراء البريطاني الى السكرتير الخاص لوزير الداخلية يقول ان بلير "يعتقد بأننا في خطر ان نكون مبالغين في طلباتنا من المصريين في مقابل الموافقة على ترحيل اعضاء جماعة الجهاد الاربعة. انه يتساءل لماذا نريد كل الضمانات التي اقترحها المستشارون القانونيون لوزارتي الخارجية والداخلية. ليس هناك مبرر واضح لماذا هناك حاجة ان يكون مسؤولون بريطانيون لديهم (حق) الاتصال بمواطنين مصريين معتقلين في سجون في مصر, أو لماذا الأربعة يجب ان يحصلوا على (حق) الاتصال بمحام مقره بريطانيا. ألا يمكن حصر لائحة الطلبات التي نحتاجها؟ بشكل عام, الأولوية لرئيس الوزراء هي ان يرى هؤلاء الاعضاء الاربعة في جماعة الجهاد يعادون الى مصر. يجب ان نفعل كل ما يمكن من أجل تحقيق ذلك".

وفي 19 نيسان أيضاًً ابلغ السفير البريطاني في القاهرة وزارة الخارجية ان السباعي صدر عليه في اليوم السابق حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة غيابياً أمام محكمة عسكرية.

وفي ضوء عدم موافقة المصريين على منح مسؤولين بريطانيين حق زيارة السجناء الأربعة, سعى البريطانيون الى الاتصال بالصليب الأحمر الدولي لمعرفة إذا كان مسؤولوه مستعدين لزيارة السجناء, لكن المنظمة رفضت الطلب. وأبلغ السفير البريطاني الدكتور الباز في 26 نيسان بموقف الصليب الأحمر. لكن الباز كان يريد الاستمرار في بحث سبل تسوية قضية تسلم الأربعة لما في ذلك من "نفع" للندن والقاهرة, واتصل لهذه الغاية بوزارة العدل التي ردت بأن الحكومة المصرية لا يمكنها ان تقدم ضمانات بأن حكم الاعدام ضد شخص معين سيخفّض, وانه لا يمكنها التدخل في المحاكم - حتى لو كانت عسكرية - لحضها على عدم اصدار حكم بالاعدام. لكن, على رغم ذلك, يمكن تقديم ضمانات بأنه اذا أعيد شخص وصدر عليه حكم فإنه سيقضي العدد المحدد من سنوات حكمه في السجن, وانه في حال كان على الشخص حكم غيابي فإنه لن ينال حكماً أقصى في حال اعيد وحوكم من جديد. وسأل السفير الدكتور الباز هل يمكن تقديم تعهد بأنه اذا أعيد شخص ما واكتشفت السلطات لاحقاً انه متورط في نشاطات تستحق حكم الاعدام, فإنه لن يحاكم بالتهم الجديدة. فاتصل الباز بوزارة العدل وقال ان ذلك صعب لكن يجب التفكير فيه. ووعد بأن يرد جواباً على السفير في غضون 48 ساعة.

كذلك اتصل الباز بوزارة العدل وأثار معها قضية السماح بزيارة المعتقلين في سجنهم, وكان رد وزير العدل انه يمكن ايجاد صيغة يتم بموجبها السماح لمحام من دولة ثالثة او شخص مرموق بزيارة المعتقلين على نحو منتظم.

وقال السفير للباز إنه حتى ولو تم الاتفاق على مجموعة من الضمانات فإن ذلك لا يعني ان المحاكم الانكليزية ستقبل بها وتوافق على ترحيل الأربعة. ورد الباز بأنه يتفهم ذلك لكن آخرين في مصر ممن تربوا على التقاليد القضائية الفرنسية لن يتفهموا ذلك.

وفي ضوء الحكم الغيابي الصادر في حق السباعي, سعى البريطانيون الى استيضاح هل يمكن ان تعاد محاكمته في حال أعيد الى مصر, لكن رد جهاز أمن الدولة على استفسار البريطانيين لم يأت سريعاً.

وفي 5 أيار (مايو) كتب وزير الداخلية الى رئيس الحكومة يلفت نظره الى انه وافق على اعتقال الأربعة (بناء على قوانين الهجرة) على رغم معرفته المسبقة بأن عليه تجاوز "عقبات كبيرة" وان فرص ترحيلهم ليست مشجعة. وأبلغه ايضاً ان هناك توثيقاً من مصادر مختلفة لانتهاكات مصر في مجال حقوق الانسان, وان ثلاثة من الأربعة المعتقلين قدموا مزاعم قابلة للتصديق في خصوص مضايقتهم وتعرضهم للتعذيب على يد السلطات المصرية. وأقر له بأنه لا يمكن ابقاء الاربعة في السجن لفترة أطول ما لم تقدم القاهرة تعهدات شاملة في خصوص طريقة معاملتهم (وفق المطالب البريطانية).

وفي 7 أيار قدم رئيس قسم شمال افريقيا في وزارة الخارجية اندرو ألان شهادة أمام القضاء في قضية السباعي شرح فيها ان الحكومة المصرية "تدرس بجدية" إمكان تقديم رسالة الضمانات وانها ستعطي جوابها قريباً.

وفي 13 أيار كتب السكرتير الخاص لوزارة الخارجية تيم بورو الى السكرتير الخاص لرئيس الوزراء يقول فيها ان لا مجال لتقديم تنازلات للحكومة المصرية في مجال الحصول على ضمانات بالحصول على حق الاتصال بالمصريين الذين يُرّحلون الى مصر او يسجنون فيها. وفي رأي وزارة الخارجية ليس هناك بديل لحق المسؤولين البريطانيين في زيارة المعتقلين.

ورد السكرتير الخاص لرئيس الحكومة برسالة مؤرخة في 15 أيار يسأل فيها هل يمكن فعل أي شيء مفيد لاقناع الحكومة المصرية بتقديم أقل الضمانات الممكنة للسماح بترحيل الأربعة.

وفي 20 أيار كتبت المسؤولة في دائرة سياسة مكافحة الارهاب في وزارة الداخلية ليزلي غريغ مذكرة تقول فيها أن الضمانات المطلوبة هي الضمانات التي قدمتها وزارة الداخلية في البداية كونها مبنية على رأي محامين استشارتهم الوزارة في شأن الشروط التي تطلبها المحاكم من أجل قبول طلبات الترحيل. وقالت انه يجب الطلب من السفارة البريطانية في القاهرة السعي الى الحصول على رد خطي نهائي من الحكومة المصرية في شأن رسالة الضمانات.

وفي 24 أيار كتب شيرارد كوبر - كولز, السكرتير الرئيسي في وزارة الخارجية, الى السكرتير الخاص لرئيس الحكومة (رداً على رسالته في 15 أيار), وقال إن البريطانيين قدموا التنازلات الى المصريين متى ما كان ذلك ممكناً وليس هناك مجال لمزيد من التنازلات. واشار الى ان المصريين كانوا وعدوا باعطاء رد خلال 48 ساعة - بتاريخ 26 نيسان - لكن ذلك لم يحصل. ونصح بالطلب من السفارة البريطانية في القاهرة الحصول على رد نهائي من الحكومة المصرية.

لكن رئيس الوزراء بلير لم يكن سعيداً, على ما يبدو, برسالة شيرارد وكتب على رأسها عند قراءتها: "هذا ليس جيداً كفاية. لا اعتقد ان علينا ان نفعل ذلك. تحدث معي".

وفي 28 أيار كتب سكرتير رئيس الحكومة الى شيرارد يخبره ان بلير ما زال يحبّذ ترحيل الأربعة الى مصر وانه يتفهم خطورة ان ترفض المحاكم قرار الترحيل اذا لم يتم الحصول على الضمانات الضرورية من المصريين, وان بلير يعتقد بأن الخطوة المقبلة هي ان يكتب رسالة الى الرئيس مبارك يحدد فيها رغبة حكومته في ترحيل الاربعة والضمانات المطلوبة لتحقيق ذلك. وعلى رغم ان المصريين كانوا يعرفون حقيقة الموقف البريطاني, إلا ان بلير شعر بأن من المفيد ان يكرر على اعلى مستوى ان موضوع الضمانات "ليس عقبة من اختراع" الحكومة لمنع التسليم.

وفي 27 أيار التقى السفير البريطاني بالباز مجدداً ونقل اليه موقف بلير. فاتصل الباز مرة أخرى بوزارة العدل وعرض معها موضوع اتاحة المجال للمسؤولين البريطانيين لزيارة المعتقلين, ولكن كان جوابه ان ذلك بالغ الصعوبة. غير انه طلب بضعة أيام لدرس الموقف أكثر. لكن رده في أول حزيران (يونيو) كان هو ذاته: لا تغيير في الرفض المصري.

وفي 2 حزيران 1999 رأت مسؤولة في وزارة الداخلية البريطانية أن رد رئاسة الحكومة على المصريين لا يجب ان يصل الى درجة اتصال بلير بمبارك والضغط عليه في مجال الضمانات. وبررت ذلك بأن المصريين هم الذين يتحملون مسؤولية انهيار قضية ترحيل الأربعة, وان القاهرة ستتوقع ان تحصل "على مقابل" في حال ضغط البريطانيون عليها مجدداً في مجال الضمانات. وقالت ان الحكومة البريطانية لا يمكنها تقديم "مقابل" للمصريين كون قرار الترحيل في يد المحاكم وليس في يدها.

وفي 2 حزيران أيضا كتبت المسؤولة في وزارة الداخلية سوزان هادلاند الى وزير الداخلية تقول إن هناك حاجة الى اطلاق الاربعة في ضوء قرار الحكومة المصرية عدم تقديم الضمانات المطلوبة. وقالت المسؤولة ان النقطة التي ما زالت عالقة هي هل يكتب بلير الى مبارك طالباً الضمانات, وهي خطوة كان بعض موظفي رئاسة الحكومة يرون ايجابيات فيها.

وفي اليوم ذاته كتب السفير البريطاني في القاهرة ان رفض المصريين رسالة الضمانات في أول حزيران يعني ان الحكومة المصرية لا تريد مواصلة البحث أكثر في هذه القضية )الضمانات).

وفي 3 حزيران كتب وزير الداخلية الى بلير يقول انه يؤيد رأي وزارة الخارجية في خصوص ان يرسل رسالة الى مبارك يؤكد فيها ضرورة تعاون البلدين في مجال مكافحة الارهاب, ولكن من دون ان يضغط عليه لتغيير رأي مصر الخاص برفض تقديم الضمانات المطلوبة. وأضاف ان رفض المصريين تقديم رسالة الضمانات يبدو انه اتُخذ على أعلى المستويات, وانه من دونها لا يمكن ترحيل الاربعة.

 

سجن بلمارش البريطاني.

وفي 3 حزيران أيضاً كتب مسؤول في وزارة الخارجية (بارو) الى مكتب رئيس الحكومة مثيراً مسألة ارسال بلير رسالة الى مبارك في خصوص الضمانات. واعتبر بارو ان في ذلك ايجابيات هي ان الضمانات ستكون من مبارك نفسه. لكنه لفت الى ان وزير الداخلية (الذي هو ايضاً رئيس مباحث أمن الدولة) يقول إن المصريين لن يغيروا رأيهم في خصوص رفض رسالة الضمانات وانها اصلاً تشكل لهم مشكلة قانونية - فحتى بريطانيا ستجد نفسها غير قادرة على منح مثل تلك الضمانات لمواطنين بريطانيين في السجون.

وفي اليوم التالي كتب سكرتير رئيس الحكومة يقول ان بلير لم يتخذ قراره بعد في شأن ان يكتب او لا يكتب رسالة الى مبارك.

وبعد ذلك بسبعة أيام تلقي وزير الداخلية مذكرة من مسؤولة في الوزارة تلفت نظره الى تطور في القضية: لقد تبيّن للبريطانيين ان الأشخاص الصادرة ضدهم احكام غيابية من محاكم عسكرية في مصر لا يسمح لهم باعادة المحاكمة اذا اعيدوا.

وفي 14 حزيران اتخذ بلير قراره في شأن ارسال الرسالة الى مبارك او عدم ارسالها, وقال انه أخذ علماً بالاراء المعارضة لارسال الرسالة الى الرئيس المصري لطلب الضمانات, لكنه لا يوافق على انه ليست هناك خيارات أخرى سوى الافراج عن الاربعة وقال انه يعتقد انه يجب الحصول على أي ضمانات ممكنة من المصريين وأخذ القضية الى المحاكم, فاذا رفضت هذه طلب الترحيل لا تكون الحكومة هي المسؤولة عن الافراج عنهم. وجادل بأنه يرى ان عليه ان يسعى الى ان يحصل من المصريين على تعهد وحيد فقط بأن الاربعة لن يُعذّبوا اذا رُحّلوا, وان الحصول على مثل هذا التعهد لا يجب ان يكون صعباً لأن القوانين المصرية تمنع التعذيب. وقال بلير انه يريد ابقاء الاربعة محتجزين, طالباً ابلاغه اذا كان هناك خطر ان تُجبر المحاكم على اطلاقهم فوراً.

وأثار موقف بلير تسارعاً في الاتصالات بين وزارتي الخارجية والداخلية. ففي حين قالت الداخلية ان عليها التشاور مع سترو كون ملف الترحيل في يده في النهاية, ردت وزارة الخارجية بالقول ان بريطانيا ستكون في وضع محرج اذا لم تصر على ان تحصل من المصريين على تعهد بعدم تنفيذ أحكام الاعدام (كون بريطانيا شاركت في تقديم مشروع قرار اوروبي امام لجنة حقوق الانسان يحتفظ بحق رفض طلبات الترحيل اذا لم يتم الحصول على ضمانات بعدم تنفيذ أحكام الاعدام للدول التي تطلب تسليم مطلوبين).

وفي 16 حزيران التقى المسؤول الكبير في وزارة الخارجية ديريك بلاملي وزير الخارجية المصري والدكتور الباز ورئيس الاستخبارات المصرية عمر سليمان. وقال الباز وسليمان ان مصر لا يمكنها تقديم اي ضمانات جديدة.

وفي 16 حزيران أيضاً أبلغت السفارة البريطانية في القاهرة وزارة الخارجية ان اي شخص محكوم غيابياً في مصر لا يمكنه استئناف الحكم في اي ظروف لكن يمكنه تقديم التماس الى رئيس الجمهورية يطلب فيه عدم تصديق الحكم.

وفي 23 حزيران ارسل السفير البريطاني الجديد في القاهرة رسالة الى وزارة الخارجية يبلغها فيها بأن المصريين لا يريدون نقاشاً في المحاكم عما يمكن ان يحصل للأربعة اذا اعيدوا الى مصر, وانهم يعرفون انه في ظل الوضع القضائي الحالي فإن الأربعة سيفرج عنهم على الأرجح ويمنحون حق البقاء في بريطانيا. وقال السفير ان الطريقة الأفضل في رأيه للتعامل مع المصريين هي ابلاغ الرئيس مبارك بانه على رغم الافراج عن الأربعة فإن الحكومة البريطانية "وضعت اشارات" على أوراقهم وستتحرك ضدهم في حال كان ذلك ضرورياً.

وفي 24 حزيران قدم فنسنت فين, المسؤول في دائرة سياسة مكافحة الارهاب في الخارجية, تقريراً عن زيارته لمصر قبل يومين وقال ان المصريين لا يتوقعون ان تعيد الحكومة البريطانية اثارة موضوع الضمانات معهم.

في 8 تموز (يوليو) أبلغت وزارة الخارجية وزارة الداخلية ان في استــطاعتها تقديم تعهد من مصر بأن الأربعة لن يُعذّبوا اذا رُحّلوا اليها. لكن وزير الداخلية رد في اليــوم ذاته باصدار قرار باطلاق السباعي والثــلاثة الآخرين في اليوم التالي. وبرر موقفه في رسالة الى بلير قال فيها: "اقترحتم ان تطلبوا تعهداً وحيداً من المصريين في خصوص التعذيب. لست متأكداً ان تعهداً من هذا النوع, حتى ولو كان سيأتي, سيكون كافياً كي أواصل اصدار أوامر الترحيل في هذه القضايا. في هذا الظرف اعتبر ان ليس عندي اساس لكي أواصل اعتقال هؤلاء الأشخاص".

وبذلك انهارت القضية ضدهم وافرج عنهم بعدما قضوا شهوراً يتوقعون ان يصحوا ليجدوا أنفسهم... في سجن طرة ليمان بدلاً من سجن بلمارش.